اجتماعي

بعد ان صفقت نورا الباب

عن الجندرة سحر الموجى تكتب

بعد أن صفقت نورا الباب

الاستاذة سحر الموجى

عند ولادتي سجلت شهادة ميلادي أنني مصرية ومسلمة. وعندما كبرت وجدتني أكتسب هوية هي الأهم والأكثر تعبيرا عمن أكون. فكوني نسوية يلخص هدفي والقضية التي تشغل تفكيري وأعمل من أجلها لأنها باختصار تمنحني “المعنى”. عندما أفكر الآن في تلك الهوية التي تشكلت عبر العشرين سنة الأخيرة من عمري تحضرني الومضة الأولى: اللحظة التي أدركتُ فيها أنني “نورا” في “بيت الدمية”. وبالرغم من أنه لم يقرأ هنريك إبسن ولا يعرف شيئا عن الحكاية إلا أنه كان يردد نفس كلمات “هيلمر” وبنفس القدر من الصدمة والذهول وعدم الفهم والاستنكار:
هيلمر: أتتركين بيتك، زوجك، أطفالك! ألا تأبهين لما سيقوله الناس؟
نورا: هذا أمر لا يهمني. كل ما أعرفه هو ما يتحتم عليّ فعله.
هيلمر: إنه لأمر مثير للغضب. أتتركين واجباتك المقدسة؟
نورا:وما هي واجباتي المقدسة؟
هيلمر: وهل هذا سؤال! إنها واجباتك تجاه زوجك وأطفالك.
نوراك ولكن لديّ واجب بنفس القدسية.
هيلمر: هذا مستحيل. ماذا تقصدين؟
نورا: إنه واجبي تجاه نفسي.
هيلمر: قبل أي شيء أنت زوجة وأم.
نورا: لم أعد أصدق في هذا. أعتقد أن قبل أي شيء أنا إنسان- مثلك تماما- أو على الأقل هذا ما سأحاول أن أكونه.
لم يكن انتمائي لعائلة من الطبقة المتوسطة تتسم بالليبرالية وبغياب أي تفرقة في التعامل بين البنت والولد ضمانا كي أشعر أنني “إنسان”، كائن مساو للرجل. بل على العكس، فقد اكتشفت لاحقا أن تلك البيئة الأولى- بما اتسمت به من حضور للعدل وللحرية- كانت شرنقة رقيقة وهشة سرعان ما تهتكت عند الاحتكاك مع العالم الخارجي. وبعد أكثر من عشر سنوات في بيت الدمية، تحولت من “عصفوري الصغير المرتعب”، ومن تلك الطفلة اللطيفة الهادئة التي تسعى لإرضاء من حولها، إلى امرأة تجادل وتسأل وتكتب. وكان بديهيا أن يتصاعد كريشندو المواجهات الدامية بيني وبينه. وكنت أعرف ساعتها أننا لم نكن شخصان يعبر كل منهما عن وجهة نظر مختلفة في الحياة. كنت أنا فردا واحدا، أما هو فقد كان يقف واثقا مرتاحا ومرتكنا إلى مجتمع بأسره. كنت فردا قرر أن يشرد عن القطيع وكان هو صوت الجماعة وهي تعلن صدمتها في ما أفكر فيه وما أحتاجه، صوت يمتلك حق الحكم عليّ كوني “غير طبيعية” ومتطرفة وغير أمينة على “واجباتي المقدسة”.
صفقتُ الباب. وخرجت إلى العالم كي أستكشف ما حدث لنورا بعد أن تركت وراءها البيت وذهبت تبحث عن إجابات.
في رحلة الخروج كانت الكتابة هي متكئي وأداتي للفهم. أكتب لأفهم العالم من حولي واستكشف كل تلك المناطق المعتمة التي هجرتها طويلا وأحاول أن أتبين المعنى وسط ركام الأفكار المجتمعية السائدة التي لم تختلف كثيرا من نهايات القرن التاسع عشر إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين. وبعد أربع كتب تبينت أنني أكتب عن لحظات التحول في حياة النساء، ومضات الوعي الأولى التي يتغير العالم من بعدها بلا رجعة، وقرارات الحرية وتبعاتها. وبينما أتقصى مناطق القوة داخلي كنت أدرك أهمية جداتي في عالم الأدب من لطيفة الزيات إلى فيرجينيا وولف، كما بدأت أيضا أعيد اكتشاف إلهات مصر القديمة، ليس كما يتم تناولهن من قبل الفكر السائد، ولكن كما أراهن أنا. فإيزيس مثلا التي تتناولها ثقافتنا الحديثة كرمز للإخلاص والوفاء هي امرأة قوية تملك قرارها، وتملك العناد والمثابرة على استعادة الحق. أما حتحور- ربة العشق والرقص والموسيقى- فقد تم تجاهلها تماما- كأنها غير موجودة! ربما كان من الصعب تلخيصها في رمز لطيف وبسيط وغير مقلق للأمن الاجتماعي العام. وكان تناولي لإيزيس وحتحور وسخمت يتعدى إطار الحكاية إلى كون هؤلاء صور أولية- archetypes- محفورة في اللاوعي الجمعي- psyche. والكتابة هي الإكسير الذي سيعيد إلى الحياة تلك الصور الأولية ويخرجها من سباتها، على الأقل هذا ما قد حدث في وعيي أنا. ما إن يبدأ أحدنا في التأمل العميق للصورة حتى تتحرك القوة المرادفة لها في الوعي وتصبح دافعا للحركة وعدسة لرؤية العالم بشكل مختلف.
والتقيت بنسويات أخريات في مؤسسة “المرأة والذاكرة” في عام 1998 وعملنا معا في إعادة كتابة الحكاية الشعبية وألف ليلة وليلة من منظور نسوي في مشروع بعنوان “قالت الراوية”. كنا جميعا غير راضيات عن الصور النمطية للمرأة في الحكاية، فهي إما غولة مخيفة أو امرأة خائنة أو أم خانعة ضعيفة أو أميرة جميلة في انتظار البطل المخلص، وفي كل الأحوال تغيب عن الحكايات شخصية المرأة القوية الفاعلة. فككنا الحكايات وغيرنا الأدوار ومنحنا النساء صوتا خاصا بهن وكسرنا بضعة صور نمطية واستبدلناها بصور أكثر تركيبا، صور تحمل صوتا مقاوما خاصا بنا وبلحظتنا الزمنية. وبعد أن كان هدفنا الأولي هو نشر الحكايات الجديدة في كتب، وجدنا أنفسنا نعتلي خشبة المسرح ونحكي الحكايات الجديدة. كانت الشفاهية أوسع تأثيرا من الكتابة وأكثر تعبيرا عن هدفنا من هذا المشروع.
وبعد أن تركت المشروع في عام 2009 أسست لمجموعة حكي نسوي جديدة بعنوان “أنا الحكاية” حيث مشينا بضعة أميال بعيدا عن الحكاية الشعبية وفي اتجاه حكايات إبداعية من واقع تجربتنا وواقعنا. وفي عام 2013 تركت “أنا الحكاية” كي أؤسس لمجموعة نسوية جديدة مع عشرين كاتبة وكاتب وأسمينا أنفسنا “البط الأسود”- The Odd Ducks- وأعلننا بسعادة وفخر أننا بط هانز كريستيان أندرسون وقد خرج بمزاجه ومحض إرادته عن سائر القطيع. وفي فبراير 2014 عرضنا “قوس قزح”- وهو عرض يتناول حكاياتنا مع أجسادنا.
من “قالت الراوية” إلى “البط الأسود” كنت قد مشيت مشوارا تغيرت فيه هويتي النسوية واكتسبت ألوانا جديدة. لم أعد نورا واحدة تواجه المجتمع الكبير الواثق من نفسه والمتمسك بقيم تضمن استمراره على ما هو عليه. لقد أصبحنا سربا كبيرا من البط يضم إليه كاتبات من أجيال مختلفة، ومعنا أيضا كتاب رجال مهتمين بالقضية النسوية، نعمل جميعا على تكسير الصور النمطية التي تسجن الرجال والنساء، ونسعى لاستبدالها بصور أكثر تعقيدا وإنسانية من الصور الشهيرة والمحببة للتيار المجتمعي السائد: الزوجة، الأم، العاهرة، الرجل، البطل… إلى آخره. إن وجودنا معا في ورشة كتابة مستمرة على مدار العام سندا ودعما نفسيا لكل واحد منا. لقد أصبحنا قبيلة.
في 25 يناير 2011 مرت هويتي النسوية بلحظة درامية كبرى لم أكن أتوقعها بالمرة. لقد صفعت النساء الأبواب وخرجن رافعات أصواتهن ضد الظلم- كن نساء من كافة الطبقات الاجتماعية وشتى الأعمار والانتماءات الأيديولوجية. وقفن في الشوارع فاتحات صدورهن يواجهن ببسالة آلة الدولة القمعية، مات منهن من مات برصاصات الأمن وعانت أخريات من جرائم التحرش والاغتصاب المنظمة من قبل السلطة، ولكنهن لم يعدن إلى ما وراء الباب. وفي ميادين الثورة كان الرجل إنسانا وليس مجرد مشروع متحرش في شوارع القاهرة الصاخبة. وبالرغم من أنني كنت هناك- مجرد نقطة في بحر البشر الهائج- إلا أن هذا لم يحل بيني وبين الدهشة لما يحدث حولي. إن ما حدث لم يكن ببساطة وجود النساء في الشوارع، ولكنه كان مؤشر لتحول عميق وضخم في الوعي الجمعي. لقد انتفض الجانب الأنثوي-anima- في الوعي الجمعي- psyche- وبزغ ليؤكد نفسه ضد القيم الذكورية التي تحكمنا. وتجلت القيم الأنثوية في ميادين الثورة: تلك القدرة على المحبة والاحتضان للغرباء الذين لم يكونوا كذلك في الثورة، قبول الاختلاف والتعايش معه، وتلك الفورة الفنية المذهلة من شعر وغناء وارتجالات مسرحية من قبل الناس العاديين. إنها بالتأكيد ثورة سياسية، ولكنها أيضا- على المستوى النفسي للجماعة- ثورة ضد الوعي الذكوري الذي يجسده الحاكم الدكتاتور بقدر ما يجسده كل القيم التي تحض على ابتعاد النساء عن الحيز العام وعن “واجباتهن المقدسة”، كونهن زوجات وأمهات أو مشاريع زوجات وأمهات. وجاءت لحظة التحول وأنا أفكر أن عليّ أن أعيد التفكير في الدور النسوي التي أقوم به مع أخريات، فما أراه أمامي ينزع عني دور المعلم والمرشد ويعيدني إلى صفوف المريدين الذين يعلمون أن أمامهم الكثير الذي سيتعلمونه من هذا الوعي الجمعي المذهل. وكنت سعيدة بتبدل الأدوار. فتلك هي أكبر المفاجآت التي كان من الممكن أن أعيشها.
هل كان هيلمر مرتعبا من خروج نورا من البيت لأنه كان يعلم أنها ستقابل أخريات وآخرين يحملون أسئلة الحرية والعدل؟ أم أنه كان يفكر فقط في إطار ما لقنه له المجتمع عما يجب أن تكون عليه النساء؟
وسألت نفسي عن التحولات التي مرت بها تلك الهوية النسوية عبر عشرين عاما. هل اختلفت أو تبدلت؟ بالتأكيد لم أعد مجرد نورا واحدة تواجه هيلمر- المتحدث الرسمي بصوت التيار السائد. لقد أصبحت واحدة في سرب من البط (نساء ورجالا) الذين قرروا أن يعلنوا اختلافهم ويفخروا به. ثم أصبحت نقطة في تيار هادر من البشر يعبر عن الجانب الأنثوي المقموع من قبل المجتمع الذكوري. هل فقدت هويتي الفردية إذن؟ أم أن تلك الهوية الفردية قد تأكدت واكتسبت طعما ولونا جديدا؟ وما هي علاقتها بجموع الثائرين؟
أعتقد أن كل المدخلات والتجارب والأسئلة والكتابة ورحلة البحث عن إجابات قد شلكتني اليوم على ما أنا عليه- ذات متفردة تحمل الهم النسوي تلتقي بذوات أخرى كثيرة- يحمل كل منها طابعه ولونه- وكلهم معا يشكلون موازيك كبير يحمل رايات المقاومة ضد مجتمع ذكوري يصر على وضعنا جميعا في قوالب ضيقة لا تتناسب حتى مع نهايات القرن التاسع عشر.
بعد أن صفقت نورا الباب مشت في رحلتها الطويلة في العالم الكبير الذي يمتلأ بمن يشبهون هيلمر. لكنها أيضا وجدت من يبحثون عن إنسانيتهم مثلها ويشتغلون من أجل العدل والحرية للنساء والرجال، ولم تندم للحظة واحدة على ما فعلته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى